اعلم أن الكمال كله في صمت اللسان والقلب، فغير ذلك لا خير فيه، فالصمت والسكوت عن الأسرار مع غير الأهل من شأن الكاملين وخلق المحبوبين، أما مع الأهل والأقران فهو من دأب المحبين، فبالصمت تكون السكينة والوقار، وبالقيل والقال قد تتهتك الأستار، والصمت هو السكوت عن المحرم والمكروه وخلاف الأولى وهو السكوت عما لا يعني.
والدليل على مشروعية الصمت قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الطواف: (فمن نطق فلا ينطق إلا بخير) أخرجه الدارمي في المناسك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) أخرجه أحمد، دل على أن المقصود من الكلام قول الخير، فإن لم يعلم العبد أن في كلامه خيراً فالصمت خير له، وقد قال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} (النساء: 114).
وسئل صلى الله عليه وسلم فيم النجاة؟ قال (في حفظ اللسان).
وروى الترمذي خبر (من صمت نجا) وعن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: (احفظ عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك) رواه الترمذي وحسنه بلفظ: (امسك عليك..).
وآفات اللسان كثيرة منها: الغيبة والنميمة والهمز واللمز والاستهزاء والكذب في الأحكام وغيرها، فلابد من تثبت العبد خوفاً من دخوله في قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله مالا تعلمون} (البقرة: 169) وقوله: {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} (آل عمران: 75).
ومما أنشد في ذلك:
احفظ لسانك أيها الإنسان * * * لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه * * * كانت تهاب لقاءه الشجعان
فكل من الصمت والكلام يعتبر فيهما حكم الشرع أمراً ونهياً، فيدور العبد مع حكم الشرع فيهما ومن ثم قالوا: السكوت في وقته صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال.
وقيل إن داود الطائي رحمه الله لما أراد أن يقعد في بيته ليسلم من آفات اللسان في الجدال والخصام، عزم على أن يحضر مجالس أبي حنيفة رحمه الله إذ كان تلميذاً له، ويقعد بين أقرانه ولا يتكلم في مسألة، فلما قوّى نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة، قعد في بيته عند ذلك، وآثر العزلة.
وقيل لذي النون المصري: من أصون الناس لنفسه؟ فقال أملكهم للسانه.
قال القشيري: سمعت ابن السماك رحمه الله يقول: كان بين شاه الكرماني ويحيى بن معاذ صداقة، فجمعهما بلد، فكان شاه لا يحضر مجلسه، فقيل له في ذلك، فقال: الصواب هذا، فما زالوا به حتى حضر يوماً مجلسه، وقعد ناحية لا يشعر به يحيى بن معاذ، فلما أخذ يحيى في الكلام سكت، ثم قال: هاهنا من هو أولى بالكلام مني! وارتج عليه، فقال شاه: قلت لكم: الصواب ألا أحضر مجلسه.
وقال بعض الحكماء: إنما خلق للإنسان لسان واحد وعينان وأذنان ليسمع ويبصر أكثر مما يقول.
ودُعي إبراهيم بن أدهم إلى دعوة، فلما جلس أخذوا في الغيبة فقال: عندنا يؤكل الخبز قبل اللحم، وأنتم ابتدأتم بأكل اللحم، أشار إلى قوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} (الحجرات: 12).
وقيل: مثل اللسان مثل السبع، إن لم توثقه عدا عليك.
وسئل أبو حفص: أي الحالين للولي أفضل الصمت أم النطق؟ فقال: لو علم الناطق ما آفة النطق لصمت إن استطاع عمر نوح، ولو علم الصامت ما آفة الصمت لسأل الله عز وجل ضعفي عمر نوح حتى ينطق.
وقيل: صمت العوام ألسنتهم، وصمت العارفين بقلوبهم، وصمت المحبين بالتحفظ من خواطر أسرارهم.
-----------------------------------------------
* بتصرف - نقلا عن كتاب (الجد في السلوك إلى ملك الملوك) للشيخ أسعد محمد الصاغرجي.