بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد
- في الصحيحين عن عمران بن حصين، عن النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم- قال: (الحياءُ لا يأتي إلاَّ بخيرٍ)، وفي روايةٍ لمسلم قال: (الحياء خيرٌ كلُّه).
- قال الماوردي: واعلم أن الحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه:
- أحدها: حياؤه من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره.
- والثاني: حياؤه من الناس فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح.
- والثالث: حياؤه من نفسه. فيكون بالعفة وصيانة الخلوات
- فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كملت فيه أسباب الخير، وانتفت عنه أسباب الشر، وصار بالفضل مشهورا، وبالجميل مذكورا. اهـ بتصرف يسير
- عن معاذ: أنَّ النَّبيَّ- صلى الله عليه وسلم- قال له: (استحي من الله استحياءَ رجل ذي هيبةٍ من أهلك).
- وهذا هو السببُ الموجب لخشية الله في السر، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الله يراه حيث كان، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره، وسرِّه وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السِّرِّ.
- فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أنْ يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنَّه يتولَّدُ من هذين المقامين الاستحياءُ من الله وترك كلِّ ما يُستحيى منه.
- كما وصَّى- صلى الله عليه وسلم- رجلاً أنْ يستحيي من الله كما يستحيي من رجل من صالحي عشيرته لا يُفارقه.
- وفي المسند والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: (الاستحياء من الله تعالى أنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وما حَوَى، وتَحفَظَ البَطنَ وما وَعَى، ولْتَذْكُرِ الموتَ والبِلى، فمن فَعَل ذلك، فقد استحيَى من الله حقَّ الحياء).
- قال بعضهم: استحي من الله على قدر قربه منك، وخَفِ الله على قدر قدرته عليك.
- وقال بعضُ العارفين: إذا تكلمتَ فاذْكُر سَمعَ اللهِ لك، وإذا سكتَّ فاذكر نظره إليك.
- وقد وقعتِ الإشارةُ في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كثيرة: كقوله تعالى:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
- وسُئِل الجنيد بما يُستعانُ على غضِّ البصر، قال: بعلمك أنَّ نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره.
- وقال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبيٍّ من الأنبياء: قُلْ لقومك: ما بالكم تسترون الذنوبَ من خلقي، وتُظهرونها لي، إنْ كنتم ترون أني لا أراكم، فأنتم مشركون بي، وإنْ كنتم تَرَونَ أني أراكم فلم جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟.
- صور من استشعار الحياء من الله:
- ألا تستحي من الله أن يراك وأنت تعصيه.
- ألا تستحي من الله أن يرى قلبك مشغولا عنه وأنت واقف بين يديه في الصلاة.
- ألا تستحي من الله أن تقول قولا وليس في قلبك أي مراقبة لله فيه.
- ألا تستحي من الله أن يرى في قلبك بغض وكراهية لإخوانك المسلمين.
- ألا تستحي من الله أن يرى في قلبك التصنع والتكلف للمخلوق.
- ألا تستحي من الله أن يرى في قلبك تعظيم المخلوقين أكثر من الخالق.
- ألا تستحي من الله بأن أنْ تعملَ في السرِّ شيئاً تستحيي منه في العلانية.
- ألا تستحي من الله بأن يكون ظاهرك خلاف باطنك.
- ألا تستحي من الله عندما يناديك في الثلث الأخير من الليل(هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له... )وأنت نائم في فراشك؟.
- كيف نكتسب الحياء من الله؟:
- من خلال معرفة اللهِ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمِه بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور، فهذا من أعلى خصالِ الإيمان.
- وقد يتولَّدُ من الله الحياءُ من مطالعة نِعمه ورؤية التقصير في شكرها.
- وكان الإمامُ أحمد يُنشِدُ:
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يوماً فلا تَقُلْ.. خَلَوتُ ولكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُلُ سَاعةً.. ولا أنَّ ما يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
- وكان ابنُ السَّماك ينشد:
يا مُدمِنَ الذَّنْبِ أما تَستَحِي.. والله في الخَلْوَةِ ثَانِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إمْهَالُهُ.. وستْرُهُ طولَ مَساوِيكَا
- أنواع الحياء من الله:
- قال ابن القيم:
- النوع الأول: حياء الجناية: (وهو حياء من ارتكب معصية)، كحياء آدم عليه السلام لما فر هاربا في الجنة قال الله تعالى: أفرارا مني يا آدم قال: لا يا رب بل حياء منك.
- النوع الثاني: حياء التقصير: (وهو حياء من لم يعبد الله حق عبادته)،كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك.
- النوع الثالث: حياء الإجلال: (وهو حياء ناتج عن إجلال الله الملك العظيم مالك الملك)، وهو حياء المعرفة وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه، كحياء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعوه ويقول: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أحصيت على نفسك). رواه الامام أحمد.
- النوع الرابع: حياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه عز وجل حين يسأله حوائجه احتقار الشأن نفسه واستصغارا لها وفي أثر إسرائيلي أن موسى عليه السلام قال: يارب إنه لتعرض لى الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك هي يا رب فقال الله تعالى: سلني حتى ملح عجينتك وعلف شاتك وقد يكون لهذا النوع سببان أحدهما: استحقار السائل نفسه واستعظام ذنوبه وخطاياه.
والثاني: استعظام مسؤوله(أي:الله).
- النوع الخامس: حياء المحبة: فهو حياء المحب من محبوبه.
- النوع السادس: حياء العبودية: (وهو حياء العبد الذي يسمع ويطيع لمولاه ولا يرفض له أمرا) فهو حياء ممتزج من محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده وأن قدره أعلى وأجل منها فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة.
- النوع السابع: حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقناعتها بالدون فيجد نفسه مستحيا من نفسه.
- النوع الثامن: حياء استشعار نعم الله عليك: ويأتي هذا النوع من استشعارك من أن نعم الله عليك تغمرك غمرا، فلا تعرف كيف تشكره فتستحي منه.
الكتاب:دروس تربوية من الأحاديث النبوية
المؤلف: أبو عبد الملك خالد بن عبد الرحمن الحسينان.