براءة المظلوم .. مسئولية من ؟
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء، خَلَقَ آدَمَ فابتلاه ثم اجْتَبَاهُ فتاب عليه وهَدَى، وبَعَثَ نُوحاً فصنَع الفُلْكَ بأمر الله وجَرَى، ونَجَّى الخَليلَ من النَّارِ فصار حَرُّها بَرْداً وسلاماً عليه فاعتَبِرُوا بِمَا جَرَى، وآتَى مُوسى تسعَ آياتٍ فَمَا ادَّكَرَ فِرْعَوْنُ وما ارْعَوَى، وأيَّدَ عيسى بآياتٍ تَبْهَرُ الوَرى، وأنْزلَ الكتابَ على محمد فيه البيَّناتُ والهُدَى، أحْمَدُه على نعمه التي لا تَزَالُ تَتْرَى، وأصلِّي وأسَلِّم على نبيِّه محمدٍ المبْعُوثِ في أُمِ القُرَى، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِهِ في الْغارِ أبي بكرٍ بلا مِرَا، وعلى عُمَرَ الْمُلْهَمِ في رأيه فهُو بِنُورِ الله يَرَى، وعلى عثمانَ زوجِ ابْنَتَيْهِ ما كان حديثاً يُفْتَرَى، وعلى ابن عمِّهِ عليٍّ بَحْرِ العلومِ وأسَدِ الشَّرى، وعلى بَقيَةِ آله وأصحابِه الذين انتَشَرَ فضلُهُمْ في الوَرَىَ، وسَلَّمَ تسليماً أما بعــد :-
عبــــــاد الله : - أن أقسى ما يمكن أن يواجهه المرء من محن وابتلاءات أن يتهم وهو بريء أو يظلم دون سبب أو تلقى عليهم التهم ويقع عليه الظلم ويدرك من حوله ببراءته ثم لا يجد من ينصره ويقف إلى جانبه .. ومن تدبر القرآن الكريم وجد في قصة يوسف عليه السلام تجسيداً لهذا الابتلاء وهذه الفتنة وهذه الجريمة في مجتمع أصيب بالترف وفساد القيم وانحطاط الأخلاق فقد أرادت زوجة العزيز بما تمتلكه من منصب ومركز وجاه أن توقع يوسف عليه السلام في الفتنة لكن الإيمان يحجز صاحبه عن الحرام قال ( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )(يوسف:23) ولأن المجتمعات المترفة تفسد أخلاقها بسبب انغماس علّية القوم بالملذات والشهوات .. عندها ينعدم الحياء ويصبح المنكر معروفاً بل ويجاهر في فعله والقيام به قال تعالى (﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾(يوسف: 30) بل قالت المرأة في تكبر وتحد (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (يوسف:32). ففي المرة الأولى كان عرضاً سريعاً خفيفاً، لكنه في هذه المرة أصبح عرضاً إجبارياً، إما أن يفعل الفاحشة أو السجن، ولكنه فضل السجن على الوقوع في الفاحشة، فقال ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ )(يوسف:33) أنه أمرٌ عجيب عندما يسجن المرء دون سبب ودون محاكمة ودون دفاع ولا يوجد دليل اتهام واحد ومع ثبوت أدلة البراءة للجميع (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (يوسف: 30)
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ... فأقم عليهم مأتم وعويلا
إنه الظلم والبغي في أبشع صوره والأغرب من هذا والأعجب أن المجتمع الذي وقع فيه هذا الظلم يعرف الظالم من المظلوم ويعرف الحقيقة كاملة ومع ذلك يسكت عن قول الحق وعن الدفاع عن المظلوم بل ويجامل الظالم والله سبحانه وتعالى قد حرم الظلم وجعل عاقبة وخيمة على الأفراد والمجتمعات والدول قال تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (يونس:13ـ14).
أيها المؤمنون /عبـاد الله : - إن انتشار الظلم اليوم مؤذن بخراب الحال عند البشر، فهناك الظلم والإستبداد والقهر السياسي، والظلم في الأموال، والظلم في الأعراض، والظلم الإجتماعي والأسري ، أنواع من الظلم تقع بين الناس لبعضهم اليوم.. وإن انتشار هذا الاستبداد والتسلط من القوي على الضعيف، ومن القادر على العاجز، وإن سكوت الناس الذين يستطيعون أن يصنعوا شيئًا، سيزيد من المعاناة والشقاء للمظلوم وللمجتمع وللعلاقات بين الناس وللحياة بكاملها، لقد ألقي يوسف عليه السلام في السجن دون ذنبٍ ودون محاكمة ودون جريمةٍ ارتكبها قال تعالى (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ(42يوسف) إن السجين الذي يعرف متى سيخرج .. في أي يوم وفي أي شهر لا يعاني من الضيق مثل ذلك الذي لا يعرف متى سيخرج .. فكم من مسجونٍ اليوم نسي القاضي قضيته أو من أمر بحبسه فلم يعد يذكره أحد يرفع شكواه إلى الله ... وكم من مظلوم سلبت حريته وأهينت كرامته دون سبب أو جناية .. واسمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس المجتمع المسلم على قواعد الرحمة والعدل حتى في جانب الحيوان والتعامل معه فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)قال: (دخلت امرأة النار من جراء (أي من أجل) هرةٍ لها أو هرٍّ ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمرم (أي تتناول ذلك بشفتيها) من خشاش الأرض، حتى ماتت هزلاً)(صحيح مسلم (4/2023) و مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل مربوط فتأثر وتألم فعن سهل بن الحنظلة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لصق ظهره ببطنه – من شدّة ضعفه وهزاله – فقال ( اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة ) وصححه الألباني /الجامع (104) .. فكيف لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك في بعض بلاد المسلمين من سجنوا و غيبوا في السجون والمعتقلات دون أن يكون هناك ذنب لأحدهم إلا أنه حاول أن يبدي رأيه في مسألة تحتمل النقاش والأخذ والرد أو صدع بكلمة حق أو طالب بحقوقه التي كفلتها له الشرائع والقوانين ودساتير الأرض وربما أخذ من باب الشبهة أو التشابه في الأسماء والصور أو بجريرة آباءه وإخوانه وأسلافه من عشرات السنين وغير ذلك وقد يؤخذ أو يعتقل ليس يوماً أو شهراً أو سنة .. بل عشرين وثلاثين عاماً دون سبب بل بعضهم يخرج من سجنه إلى المقابر .. ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (البروج:
.. كيف لو علم رسول الله صل الله عليه وسلم أن هناك عشرات بل مئات الآلاف من المسلمين محاصرين في مدنهم وقراهم شهور وسنوات كما في فلسطين وغزة وغيرهما من بلاد المسلمين .. وأن هناك مئات الآلاف مشردين ونازحين في الأرض قد ركبوا الأهوال والأخطار في البراري والقفار والأنهار والمحيطات والبحار بسبب الظلم والحروب والصراعات أي ظلــم هذا وأي تعدٍ هــذا من الإنسان على أخيه الإنسان .. فإياك أن تكون ظالمــاً أو سبباً في ظلم أحدٍ من الناس فيكون الله سبحانه وتعالى لك بالمرصاد
لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدراً ... فَالظُلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إلى النَّدَمِ
تنامُ عَيْنُكَ والمَظْلومُ مُنَتَبِـهٌ ... يدعو عليك وعين الله لم تنم
عبــــاد الله : - إن المظلوم يجب أن يسعى الجميع لإثبات براءته والدفاع عنه وانظروا إلى المجتمعات والدول من حولنا في الغرب والشرق كيف يحيون هذه القيمة العظيمة فقاموا بتشريع القوانين التي تضبط العلاقات الإنسانية وأنشأوا الجمعيات والمنظمات والاتحادات واستثمروا الصحافة ووسائل الإعلام فهذا العمل خلق إنساني متجذر في النفوس السوية والإسلام بتشريعاته وأحكامه قد أعطى هذا الجانب أهمية كبيرة وجعل هذا الأمر واجبات المجتمع والأفراد والأمة ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن خيرية هذه الأمة معقود بذلك قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران/110) .. أما يوسف عليه السلام فلم تظهر براءته حتى جاء الاعتراف البين الواضح من المرأة زوجة العزيز فقالت ( الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ) (يوسف/51) وكانت عاقبة الصبر ليوسف عليه السلام التمكين في الأرض والقبول في السماء والخروج من السجن والجلوس على كرسي الحكم .. خرج بريئاً لا مجرماً وخرج لأن الملك محتاجٌ إليه ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ) (يوسف/54) قال القرطبي : " أستخلصه لنفسي : أي أجعله خالصا لنفسي أفوض إليه أمر مملكتي (تفسير القرطبى، ج 9 ، ص 212) .. ومن هنا فإنه عندما يتخلى المجتمع عن مسئوليته فإن الله سبحانه وتعالى لا ينسى أمر الظالم والمظلوم وعندما يريد إحقاق الحق فإنما يقول له كن فيكون فيأذن بنصرة المظلوم ويأمربهلاك الظالم .. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً .. قلت ما سمعتم واستـغفر الله لي ولكم فاســتغفروه ..
الخطـــــبة الثـــانية : - عبــاد الله : - إن السعي لإثبات براءة المظلوم والإنتصار له مسئولية الجميع إبتداءاً من الحاكم والقاضي والسلطة التنفيذية وذلك بإتباع الحق والتثبت من الوشايات الكاذبة والشكاوى الكيدية واحترام القوانين والعدل في الحكم .. وبراءة المظلوم مسئولة المجتمع فالإعلام والصحافة والقنوات الفضائية لها دور عظيم في ذلك وهي مسئولية الأفراد كلٌ بما يستطيع بماله أو جهده أو خبرته وعلاقاته أو حتى بلسانه وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب نصرة المظلوم والوقوف معه لدفع الظلم عنه واسترداد حقوقه وحفظ كرامته ، فعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال (تأخذ فوق يديه) (لبخاري(2312) ، وقوله صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك) أمر والأمر المطلق يقتضي الوجوب , وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلم أخو المسلم ولا يسلمه، ومن كان في حاجة مسلم كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)(مسلم(2580))، قال ابن حجر رحمه الله تعالى (قوله (لا يسلمه) أي لا يتركه مع من يؤذيه بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم)( فتح الباري (5 / 97)، فالنصرة إذن حق أساسي من حقوق الأخوة ومقتضياتها العملية في المجتمع وبين أفراده.
عبــــاد الله : - إنه ينبغي علينا أن نحيي هذه القيمة الأخلاقية العظيمة ونقوم بها في واقع حياتنا طاعة لربنا وامتثالاً لتوجيهات نبينا صلى الله عليه وسلم وحتى لا تتسع دائرة الظلم ويستمر استنساخ الظلمة والمستبدين في المجتمع وحتى لا يضيع الحق وتذهب القيم وتندثر الأخلاق .. كلٌ حسب استطاعته وقدرته .. بالكلمة وبالشفاعة الحسنة وبالشهادة وبيان الحق وبالكتابة والمحاماة وبالتعريف بقضيته العادلة في المجتمع من حوله وبالدعاء له وبالمال والسلطان والجاه وبرعاية أهله وأسرته وأولاده وعن طريق النقابات والمنظمات الإنسانية وغير ذلك .. وتذكروا قوله صل الله عليه وسلم (ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب القيامة ) .. اللهُمَّ إنَّا نسألُك إيمانًا يُباشرُ قُلوبنا ويقينًا صادقًا وتوبةً قبلَ الموتِ وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة ولا فتنةً مُضلة. اللهُمَّ زينَّا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مُهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, ولا ظالمين ولا مظلومين واجعلنا اللهم بالمعروفِ آمرين، وعن المُنكرِ ناهين وللحق ساعين يا ربَّ العالمين اللهم احفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين واحقن دمائنا ودماء المسلمين وانصر عبادك المستضعفين المظلومين في بقاع الله يا قوي يا متين ... هذا وصلوا وسلِّموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين وقائد الغُرِّ المُحجلين، وعلى آلهِ وصحابته أجمعين، وارض اللهُمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعنا معهم بمن وكرمك يا أرحم الراحمين و الحمدلله رب العالمين 1436هـ/2015م.