إن لكل دين خُلًقاً، وخُلُق الإسلام الحياء. وإن الحياء من الإيمان، والبَذاء من العِصيان، وكفى بالحياء فضلاً أن يكون للخير دليلاً، وكفى بالبَذاء قُبحاً أن يكون إلى الشرِّ سبيلاً.
إن الله تعالى إذا أراد أن يُهلك عبداً نَزع منه الحياء، فإذا نُزع منه الحياء لم تُلْفِه إلا بغيضاً مذموماً، ومن الدلائل على أصالة الحياء وكمالِه أن جُذوره تضرب في أعماق تاريخ البشَريّة، بدءاً من النبوّة الأولى مروراً بعهود الرسل والأنبياء إلى زمن خير القرون وما بعده.. وما زال يحتلّ صدارة الخصال الفاضلة، ويتربّع على عرش الأخلاق السّامية؛ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الميراث العظيم بقوله: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوّة الأول: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» أخرجه البخاري.
إن المرء إذا تجرّد مِن خُلق الحياء صار مؤهلاً لارتكاب كل منكر وشرّ، وكل ظُلمٍ وبَغْي، وتجرّأ على مُخالفة الآداب، وهَتْك الحُرمات.
إن الحياء من أقوى البواعث على الاتصاف بكل حَسن والابتعاد عن كل قبيح، وهو جُنّة كفيلة بحماية المؤمن من أن تُطارده الميول الفاسدة، وأن تستبدّ به الأهواء، فالحياء بهذا المعنى هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «استَحْيُوا من الله حَقّ الحياء»، قالوا يا رسول الله إنا نستحيِي والحمد لله، قال: «ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حقَّ الحياء، أن تحفظ الرأس وما وَعَى، وتحفظ البطن وما حَوى، وتذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة ترَك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقَّ الحياء».
فهذه إذاً حقيقةُ الحياء، وليست ذلك الحَرَج الذي يشعر به المرء في لحظة عصيبة، ولا ذلك الانكسار وتلوّن الوجه خوفاً مما يُذمّ على فعله أو قوله، فالحياء يتمثل في ثلاث نواحٍ:
- حِفظ الحواسّ التي في الرأس من السمع والبصر واللسان من أن تأتي مُنكراً، أو تفعل ما تُلام عليه.
- والثاني حِفظ البطن من الشّراهة، ومِن أَكْل ما حرّم الله.
- والثالث ترْك زينة الدنيا التي نهى الله عنها الرجال أو النساء.
وإن هذا هو حَياء الأنبياء ومَن سار على هديهم.
مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على رجل من الأنصار وهو يَعِظ أخاه في الحياء ويشتدُّ عليه كأنه يقول له: إن الحياء قد أضرَّ بكَ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُ فإن الحياء من الإيمان» متفق عليه.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهُه عرفوه في وجهه.
ولقد كان قادة الأمة وولاتُها يتحلّون بفضيلة الحياء، وقد قرأنا الوصف اللطيف لكبار الصحابة يُبيِّنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله: «أرحمُ أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في دين الله عمر، وأشدُّهم حياءً عثمان بن عفان» أخرجه أهل السّنن.
وينبغي أن نعلم أن الحياء من صفات الله عز وجل! كما في الحديث الشريف «إنَّ الله حَيِيٌّ كريم يسْتحيِي إذا رفعَ الرَّجلُ إليه يديه أن يردَّهُما صِفْراً خائبتَيْن» أخرجه أحمد.
ولا يَخفى على اللَّبيب أن الحياء والخجل لا يستويان، فالحياءُ مَحْمَدة، والخجل مَنقَصة، وقد حدَّثتْ السيدة عائشة رضي الله عنها عن نساء الأنصار فقالت: «نِعْم النساء نساء الأنصار، لم يَمْنَعْهُنّ الحياء أن يتَفقَّهن في الدِّين» رواه البخاري.
واليوم أين نجد هذا الخُلُق النبويّ الـمُضيَّع؟ وهل غَرَبَت شمسُه؟ أم أفَل نَجمُه؟ أم ذهبَ ضَوْؤه؟ إذا كان لخلق الحياء مقام في مكارم الأخلاق، فقد وجب أن يتحلّى به كل فرد من العلماء والدعاة والمصلحين، ولكن الواقع يُنبئكم أن كثيراً من هؤلاء الخاصة أو النُّخبة باتوا خِلواً من هذه الفضيلة! إذ ليس من فضيلة الحياء صفاقةُ الوجه وسماجة النفس، والاجتراء على النُّطق بفاحش الكلام والسّقوط في الآثام، وليس منها الوقوف على أبواب التذلُّل والتنازل عن الكرامة.. فلا غِناءَ لنا عن التخلُّق بسَجيّة الحياء بشُعبه الثلاث: الحياء من الله، والحياء من الناس، والحياء من النفس، وإلّا أَظْلمَت الآداب وتوارت شمسُها بالحِجاب.
------------------