كتب: إسلاميات
الخلوة والعزلة مطلوبتان، روى القشيري بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ من خير معايش الناس كلهم رجلاً، آخذاً بعنان فرسه في سبيل الله، إن سمع فزعة أو هيعة كان على متن فرسه يبتغي الموت أو القتل في مظانه، أو رجلاً في غنيمة له في رأس شعفة من هذه الشعاف، وفي بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير) رواه مسلم.
الخلوة صفة أهل الصفوة، والعزلة من أمارات الوصلة، ولابد للمريد في ابتداء حاله من العزلة عن أبناء جنسه، ثم في نهايته من الخلوة لتحققه بأنسه، ومن حق العبد إذا آثر العزلة أن يعتقد باعتزاله عن الخلق سلامة الناس من شره، ولا يقصد سلامته من شر الخلق، فإن الأول من القسمين نتيجة استصفاء نفسه، والثاني شهود مزيته على الخلق، ومن استصغر نفسه فهو متواضع، ومن رأى لنفسه مزية على أحد فهو متكبر.
وقد رؤي بعض الرهبان فقيل له: إنك راهب، فقال: لا، بل حارس كلب، إن نفسي كلب يعقر الخلق أخرجتها من بينهم ليسلموا منها.
ومر إنسان ببعض الصالحين فجمع ثيابه منه، فقال له الرجل: لم تجمع عني ثيابك ليست ثيابي نجسة، فقال له الشيخ: وهمتَ في ظنك، ثيابي هي النجسة جمعتها عنك لئلا تتنجس ثيابك بها، لا لكي لا تنجس ثيابي. وثياب الإنسان قد تطلق على حافته التي هو فيها، من سوء خلقه، وكثرة وقوعه في الغيبة، والكذب، والكلام فيما لا يعنيه.
ومن آداب العزلة: أن يحصل من العلوم ما يصحح به عقد توحيده، لكيلا يستهويه الشيطان بوساوسه، ثم يحصل من علوم الشرع ما يؤدي به فرضه، ليكون بناءُ أمره على أساس محكم، والعزلة في الحقيقة اعتزال الخصال المذمومة، فتأثير العزلة إنما هو لتبديل الصفات لا للتنائي عن الأوطان، ولهذا قيل: من العارف بالله؟ قالوا: كائن بائن ، يعني كائن مع الخلق، بائن عنهم بالسر.
وقال المغربي: من اختار الخلوة على الصحبة ينبغي أن يكون خالياً من جميع الأذكار إلا ذكر ربه، وخالياً من جميع الإرادات إلا رضا ربه، وخالياً من مطالبة النفس من جميع الأسباب، فإن لم يكن بهذه الصفة، فإن خلوته توقعه في فتنة أو بلية، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وقد صح في الخبر: (يأتي الشيطان أحدكم ويقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته).
جاء رجل إلى زيارة أبي بكر الوراق، فلما أراد أن يرجع قال له: أوصني، فقال: وجدت خير الدنيا والآخرة في الخلوة، وقلة الطعام، وشرهما في الكثرة وفي الاختلاط.
وقال سهل : لا تصح الخلوة إلا بأكل الحلال، ولا يصح أكل الحلال إلا بأداء حق الله.
وقال ذو النون المصري: لم أر شيئاً أبعث على الإخلاص من الخلوة.
وقال أبو عبدالله الرملي: ليكن خِدْنُك الخلوة، وطعامك الجوع، وحديثك المناجاة، فإما أن تموت، وإما أن تصل إلى الله سبحانه.
وقال شعيب بن حرب: دخلتُ على مالك بن مسعود في الكوفة وهو في داره وحده، فقلت له: أما تستوحش وحدك؟ فقال: ما كنت أرى أن أحداً يستوحش مع الله.
وقال الجنيد: من أراد أن يسلم له دينه ويستريح بدنه وقلبه فليعتزل الناس، فإن هذا زمان وحشة، والعاقل من اختار فيه الوحدة.
وقيل: إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذل المعصية إلى عز الطاعة آنسه بالوحدة، وأغناه بالقناعة، وبصره بعيوب نفسه، فمن أُعطي ذلك فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة.
-----------------------------------------------
* بتصرف - نقلا عن كتاب (الجد في السلوك إلى ملك الملوك) للشيخ أسعد محمد الصاغرجي.