بسم الله الرحمن الرحيم
على العهد بعد رمضان
في رمضان زيادة في الأعمال الصالحة؛ صلاة، وصياما، وقرآنا، وصدقة، وقياما، وكفا عن الأذى، وإحجاما عن المعصية، وتقللا من المشغلات والملهيات.
ومما يطلب من المسلم: الاستمرار بعد رمضان على ذلك.
ومن غير الممكن – مهما بلغت عبادة المسلم – أن يكون في غير رمضان كما كان فيه.
فهؤلاء أئمة الدين والعلم، يذكر عنهم من التعبد في رمضان، ما لا يذكر في غيره؛ كختم القرآن ثلاثين وستين مرة، وطول القيام والتهجد الليل كله، ويبلغ منهم الجد والنشاط مبلغا يقصرون عنه في سائر العام، بل لا يتكلفون ولا يتطلبونه.
ذلك لأن رمضان له مزية خاصة، في الإعانة على العبادة..
ففيه تصفد الشياطين، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، ويقال لباغي الخير: أقبل. ولباغي الشر: أدبر. ولله تعالى فيه عتقاء من النار، وذلك كل ليلة.
كل هذه الخصائص تهيء الإنسان لطاعة أكثر؛ فإذا أردنا أن نعرف القبول من الله تعالى، وإن كنا ترقينا في درجات الإيمان، فلا يصح أن نقارن حالنا في رمضان، بحالنا في غيره، قطعا لا يستويان، لكن نقارن ما قبله بما بعده، ونجعل رمضان محطة التزود والانطلاق والترقي، ونقطة ما بين مرحلتين، فمن كان بعده أحسن حالا من قبله، فهذا استفاد من فرصة رمضان، لرفع إيمانه، وترقى في درجات القرب من الله تعالى.
بعض الناس لا يلتزمون فرائض الله عليهم، حتى إذا جاء رمضان، قاموا بها.
فهؤلاء إذا أرادوا أن يعرفوا قدرهم عند الله تعالى، إن كان قبل منهم توبتهم وقربهم ورفع درجاتهم، فلينظروا في أحوالهم بعد رمضان، إن ثبتوا على ما التزموه من الفرائض، فهذه علامة قبول للتوبة؛ لأن الله تعالى إذا قبل توبة عبد حماه من العودة والإصرار على الذنب.
لكن إن رجعوا إلى تفريطهم في فرائض الله عليهم، فربما كانت توبتهم غير نصوح، والله تعالى يقول: { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا}.
القصد من هذا: على المسلم ألا يطمع في حال كحال رمضان في الترقية الإيمانية والسمو بالنوافل، لكن قريبا منه نعم. إلا أن يكون قد تعلم في رمضان، إقامة ما وجب عليه، فهذا عليه أن يطمع أن يكون على حاله في رمضان.
يقال هذا، حتى لا ييأس ويقنط مجتهد حريص على كمال حاله، إذا رأى عجزه عن مجاراة طاعته في الشهر المبارك. ولا يغتر مفرط مقصر، فيظن أن له يرجع إلى نقصه وتفريطه بعده، فإن الفرائض تجب في رمضان وغيره لا فرق، والكف عن الذنوب والأذى كذلك.
في كافة الأحوال، من حسن حاله، فهذا منتفع بالشهر، سواء في الترقي بالإيمان في الدرجات العلى، أو في الخلاص من التقصير.
أما من كان على حاله قبل، فهذا لم ينتفع، فإن نقص حاله، فهذا الذي لا ينبغي، وهو أسوأ شيء في هذا، وفي مثله ورد قوله صلى الله عليه وسلم:
- (رغم أنف امرئ أدرك رمضان، فلم يغفر له).
لأن رمضان فرصة سانحة يسيرة وسهلة للمغفرة، لما تقدم ذكره من خصائصه ومزاياه، فهو أسهل طريق للتوبة، كما أن الأبوين أسهل وسيلة لدخول الجنة؛ إذ برهما أسهل شيء على النفس، فلهما الولاء والحب فطرة، والولد مدفوع لبرهما بلا عنت ولا مشقة، فإذا فرط في هذا الباب إلى الجنة، فبعدا له، كذلك من فرط في رمضان بالتوبة النصوح.
من تمام الحديث الآنف:
- (رغم أنف امرئ أدرك أبويه، فلم يدخلاه الجنة).
إن المسلم إذا عمل صالحا، قبل الله منه وأثابه، سواء أساء قبله أو بعده؛ فكل عمل صالح له ثوابه، لا يشترط في ثوابه وقبوله: ألا تسبقه معصية، أو ألا تلحقه معصية. فالمعصية إساءة، نعم هي كذلك، غير أنها لا تبطل العمل الصالح، بل تضعف ثوابه؛ لأن المعصية تضعف من قدرة الإنسان على أداء عمله الصالح على أحسن وجه، فيؤديه بضعف، فيكون ثوابه على هذا القدر، لكنه لا يحرم من الثواب كله، ولا يبطل سعيه بسبب إساءاته، إلا مع سيئة واحدة، هي: الشرك. فإنه يحبط جميع الأعمال السابقة، وما عداه فلا يحبط.
فتبقى الأعمال الصالحة لها ثوابها، مهما كانت محاطة بالسيئات ما دون الشرك، وهكذا يتحقق الميزان، فإن الله تعالى وضعه، فقال: {والسماء رفعها ووضع الميزان}.
وما الميزان إلا لوزن العمل الصالح والسيء؛ ليرى أيهما أرجح، فلو كان سيء محبط لكل صالح لأنه سبقه أو لحقه، لما كان للميزان حاجة.
هذه بشارة للمقصرين من أمثالنا؛ أن ثواب ما عملوا من صالحات غير مهضوم:
- {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}.
أي إذا عمل وهو مؤمن بثوابه ووعده، مخلصا له الدين.
وإذا كان الله تعالى يثيب الكافر على إحسانه، لكن في الدنيا، مع أنه أحاط إحسانه بكفر وشرك وظلم، فكيف لا يثيب المسلم المقصر، وهو الذي خلص من الشرك والكفر ؟.
قال تعالى:
- {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}.
* * *
يوما بعد يوم، وحينا بعد حين، نكشف ونقف على جانب من جوانب الرحمة الإلهية بالعباد، تلك الجوانب التي لا تنتهي، والتي كدنا أن نعمِّي عليها، أو نضيقها بقلة فقهنا وعلمنا. فالناس إذا كانوا في إدبار عن الدين، لما يحتملونه من قسوة الحياة، والشغل بالرزق، وما يجدونه من ملهيات وصوارف، وما يعترضهم من أذى وابتلاء: فليس من الحكمة سدّ باب الرحمة في وجوههم، وتضييق السعة عليهم، وتحميلهم من شروط قبول العمل ما لم ينزل به سلطانا، فنطلب إليهم إما عملا كاملا، أو فمشكوك في قبولهم.
كلا، فالله تعالى أعلم وأحكم وأرحم، وليس من أحد يسعى في رمضان بالنوافل إلا لإيمان في قلبه، فلا يليق أن يلاقى بعده بالتوبيخ، إن لم يفعل ما كان يفعله فيه، فكل الناس لهم أحوال بعد رمضان دون أحوالهم التي كانوا عليها.
كان عليه الصلاة والسلام في رمضان يحيي ليله كله، ولم يكن يفعل ذلك فيما سواه، وكان أجود بالخير من الريح من المرسلة، وأجود ما يكون في رمضان، بهذا جاءت الأخبار، هذا وهو صاحب المقام الأرفع.
لكن من عاد إلى التفريط في فرائض الله عليه، بعد التزامها حينا في الشهر الكريم، فهو مستحق للتوبيخ، فهذا نقص لا يسكت عنه، وليس فيه رعاية للعهد.
إن ما يطلب بعد رمضان هو: تحسن الحال عما كان قبله، ولو بدرجة. وهو أمر يسير غير عسير، فرمضان شهر الدفع والرفع للإيمان، يدفع الإنسان إلى الأمام، ويرفعه إلى أعلى، كالطائر يحتاج إلى قوة دافعة رافعة ليحلق من على الأرض، ثم يطير بعدها بلا كلفة، أسهل من مشيه وجريه على الأرض.
كذلك الشهر يفعل بالمسلم، يطير به إلى أعمال لم يعتدها قبل، يدرسه إياها ويعلمه تعليما، ويدربه عليها حتى تكون سجية وعادة له، مع شحن قلبه بمعاني الإيمان والصلة بالله تعالى، التي تسهل عليه الأعمال الصالحة الجديدة عليه، أو تسهل عليه الزيادة منها.
فعلى المسلم أن يستغل قرب عهده برمضان، وما تعود عليه، ليديم على بعض ما كان يعمل، ولو بركعة وتر واحدة، أو ركعتي نافلة نهارا، ولو بصيام يوم في الشهر، ولو بصدقة ريال في اليوم، فهذا سهل يسير. ويترك شيئا من الزلات، إن أعجزه تركها كلها.
حينما يعمل الإنسان فكره بالاتجاه الصحيح، ثم يعزم العزم الصادق، سيجد أن ما كان يعمله في رمضان غير معجز، ولولا أن لرمضان مزية، والناس فيه أكثر فراغا لكان في قدرته أن يعمل عمل رمضان سائر العام، لكنه في قدرته أن يعمل بعض ما كان يعمله دون مشقة.
إن أهم ما يحتاجه الناس اليوم هو: العبادة. لما في العالم من كثرة الهرج والمرج، وفي الأثر:
- (عبادة في الهرج كهجرة إلي).
فإذا كثر اختلاط الأمور، وقل الصادقون، وكثر الكاذبون المضلون، الذين يجادلون في آيات الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، والذين يضلون الأمة بالشبهات والشهوات: كانت العبادة زادا، وسبب ثبات على الدين، وأكبر وسيلة لدفع الفتن والمضلات، يتدرع بها المؤمن ويتترس من الأهواء. قال صلى الله عليه وسلم:
- (بادوا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يمسي الرجل مؤمنا، ويصبح كافرا، ويصبح مؤمنا، ويمسي كافرا، يبيع أحدكم دينه بعرض من الدنيا قليل). مسلم
_________________
شات طريق الاسلام
اللهم ارحمنا وارفعنا بالقران العظيم الذي ايدت سلطانه وقلت يا اعز من قائل سبحانه فاذا قرانه فاتبع قرأنه ثم ان علينا بيانه احسن كتبك نظاما وافصحها كلاما وابينها حلالا وحراما ظاهر البرهان محكم البيان محروس من الزياده والنقصان فيه وعد ووعيد وتخويف وتهديد لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد