بل عادة وعبادة
تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي
عادة وعبادة
محمد بن شاكر الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
تتعرض كثير من شعائر الإسلام للهجران أو محاولة تقليل الأخذ بها عند كثير من الناس، ومن تلك الشعائر ما يتعلق بالمرأة، وذلك انطلاقا من أن إفساد المرأة إفساد للمجتمع، ومما تعرض للهجوم والانتقاص في العقود الأخيرة ستر المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي، وأول ما بدأ ذلك ما تلقاه المسلمات في بلدان الكفر حيث منعت من ارتداء الحجاب في كثير من الأماكن، لكن الأمر لم يقتصر على تلك البلاد التي تكفر برب العباد وشريعته، بل تعدتها إلى كثير من الدول الإسلامية، حتى تورط في ذلك بعض من ينسب إلى العلم، وأول ما بدأ الأمر في الدول الإسلامية التخفي والاستتار خلف قول مجموعة من أهل العلم أن تغطية وجه المرأة بحضرة الرحل الأجنبي ليس بواجب-مع أنهم قالوا إن التغطية مستحبة وفضيلة-لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل تعداه لما هو أطغى وأطم فوجدنا من يكتب كتابا نشازا بعنوان "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب"، ثم فوجئنا أخيرا ببعض المرجعيات الدينية من يزعم أن تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي عادة وليس عبادة، وكذبوا في ذلك وما صدقوا، وكأنهم لما رأوا أن القول بتغطية وجه المرأة أمام الرجل الأجنبي سنة وفضيلة ليس بواجب لا يحقق ما يريدونه من إبعاد المرأة المسلمة عن التمسك بأحكام دينها؛ لأن المسلمة تحرص على الإتيان بالسنة ولو لم تكن فرضا وواجبا، أرادوا نفي الأمر بالكلية وقد أنفقوا الملايين في الدعاية لذلك القول وتعميمه ثم أصدروا بعض القرارات المبنية على ذلك القول الكاذب ليجبروا الناس على الالتزام به، مع أنهم لم ينفقوا درهما واحدا في سبيل الحديث عما هو متفق عليه بين المسلمين كافة وهو حرمة التبرج التي تقع فيه نساء كثيرات حتى نتج عن ذلك من الفتنة والبلايا ما تعجز الصحائف عن تحمله، ومن هنا كان لا بد من بيان ما في ذلك القول من الباطل والخطأ الصراح.
فالعبادة: اسم جامع لما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة الصادرة من المكلف ابتغاء وجه الله ومرضاته، وما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال قد دل عليه وبينه الوحي المعصوم من الكتاب والسنة، ومن ثم فإن العبادة لا تثبت إلا بالدليل الدال عليها والمثبت لها، ولا وجه لإثبات عبادة لم تدل عليها نصوص الشارع بوجه من وجوه الدلالة المعتبرة، وعلى ذلك فكل ما أمر الشارع المكلفين بفعله أو قوله يكون الإتيان به من العبادة سواء كان الأمر أمر إيجاب أم أمر استحباب
والعادة: تكرير الشيء دائما أو غالبا على نهج واحد بلا علاقة عقلية، وقيل: ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة" (تاج العروس للزبيدي) ، وقال السعدي: "العادة هي الديدن وهو الدأب والاستمرار على الشيء وسميت بذلك لأن صاحبها يعاودها ويرجع إليها مرة بعد أخرى"، ومن ثم فهي اسم جامع لما يعتاد الناس قوله أو فعله، كالأكل والشرب والزواج ودفن الموتى ونحو ذلك من الأمور العادية المشتركة بين الناس.
وما يعتاده الناس أنواع، فمنه ما يكون مرجعه للجبلة التي خلق الله الخلق عليها كاعتيادهم للنوم والاستيقاظ والقيام والقعود والأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، ومنه ما يكون مرجعه إلى العرف الشائع بين الناس في زمان أو مكان، ومنه ما يكون مرجعه القياس والتجربة، ومنه ما يكون مرجعه إلى أوامر الدين ونواهيه، كما يعتاد المسلم الأكل والشرب باليمين، وكما يعتاد إلقاء السلام إذا قدم على جماعة من الناس وكما يعتاد دخول المسجد بالرجل اليمنى والخروج بالرجل اليسرى ونحو ذلك، وهذا النوع الأخير يجتمع فيه الوصفان فيكون عبادة من قبل طلب الشارع له، ويكون عادة من قبل المداومة على الإتيان به، ولا يناقض أحدهما الآخر، فاعتباره عادة لا ينفي كونه عبادة، واعتباره عبادة لا يناقض كونه عادة.
والعادة في مجتمع المسلمين تكون بأحد أمرين: إما أن تكون عادة موروثة أو عادة محدثة
1- فالعادة الموروثة: إما أن تكون مأخوذة مما دلت عليه النصوص الشرعية، وإما أن تكون من أمر الناس القديم منذ القرون المفضلة مما تعاقبت عليه الأمة جيلا بعد جيل من غير نكير من أحد من علماء المسلمين فيكون من عرف المسلمين، وفي كلا الحالين تكون العادة معتبرة شرعا يؤخذ بها وتؤسس عليها الأحكام الشرعية.
2- والعادة المحدثة إما أن تكون عادة أحدثها الناس من تلقاء أنفسهم من بعد القرون المفضلة، أو تكون عادة قادمة من غير بلاد المسلمين وقد دلت النصوص الشرعية إما إجمالا وإما تفصيلا على فسادها ومخالفتها لنصوص الشريعة أو مقاصدها، وفي كلا الحالين فإن العادة مرفوضة غير مأخوذ بها ولا معول عليها.
فالعادة على ذلك نوعان:
عادة صحيحة، وهي التي لا تخالف نصاً من نصوص الكتاب أو السنة، ولا تفوت مصلحة معتبرة، ولا تجلب مفسدة راجحة، وهي التي تذكر في مثلها القاعدة الفقهية المشهورة: "العادة محكمة".
وعادة فاسدة، وهي التي تكون مخالفة للنص الشرعي من الكتاب أو السنة أو مخالفة للمقاصد الشرعية، أو فيها تفويت مصلحة معتبرة أو جلب مفسدة راجحة.
ومن هنا نسأل الذين يزعمون أن تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي عادة وليس عبادة-أي يثبتون لها العادة وفي الوقت نفسه ينفون عنها العبادة، فتكون نسبتها للدين حينئذ بدعة (حسب دعواهم السابقة)-هل هي عادة فاسدة أم عادة صحيحة؟ والجواب واضح لكل من كان ذا عقل ولب يفهم ويعي ويقيس الأمور بمقياسها الصحيح.
وإذا نظرنا لمسألة تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي من جهة العادة فقط تبين بما لا مجال فيه للمناقشة أن هذه العادة موروثة ليست حادثة بعد القرون المفضلة ولا مستجلبة من بلاد الكفار، وحينئذ يقال: هذه العادة الموروثة من أين ورثها المسلمون؟ فإما أن يقال: إنهم ورثوها من أيام الجاهلية واستمرت فيهم بعد مجيء الإسلام، وإما أن يقال: إنهم ورثوها من نصوص الشريعة التي تدل على ذلك.
فإن قيل: إنهم ورثوها من النصوص الشرعية دل ذلك على أن تغطية وجه المرأة مما دلت عليه الشريعة وطلبته من نساء المؤمنين وبذلك تكون أيضا عبادة إلى جانب كونها عادة.
وإن قيل: إنهم ورثوها من أيام الجاهلية[1]، قلنا لهم: عندما جاء الإسلام ووجد الأمر على ذلك النحو هل نهى عنه أم أقره؟
فإن قالوا نهى عنه قلنا لهم: كذبتم أين النهي؟ أين نهى الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم نساء المؤمنين عن تغطية وجوههن بحضرة الرجل الأجنبي؟ ولا يوجد نهي عن ذلك فمن قاله فهو كاذب مفتر على الله ورسوله.
وإن قالوا: أقره، قلنا: قد ثبت المطلوب، وهو حجة عليكم، فإذا أقره الشرع دل على حسنه وصوابه، فالشرع لا يقر الناس على عمل باطل ويسكت عن بيان وجه الصواب فيه، والقائل في هذه الحالة: إن الشرع سكت عن بيان موقفه من هذه القضية ولم يبين الحق فيها، طاعن في القرآن وطاعن في السنة: أما القرآن فقد فقال الله تعالى عنه أنه هدى ونور وأنه مبين وأنه بيان، وما كان هذا شأنه فلا يسكت عن بيان الحق، وأما السنة فقد قال الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"، فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين للناس ما أنزله الله إليهم فيدلهم على الحق حتى يتمسكوا به، كما ينهاهم عن الباطل حتى يجتنبوه، وإذا سكت عن شيء بعد علمه به دل أن ذلك الشيء مما تقبله الشريعة وتقره، ولذلك عد علماء الأصول من السنة التي يؤخذ بها وتستقى منها الأحكام: التقرير، ويقال لها سنة تقريرية: وهو أن يحدث شيء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل فيبلغه ويسكت عن النهي عنه فيكون هذا إقرارا له وبيان أنه حق ومشروع إذ الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن إقرار الباطل
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستدلون على إقرار الشارع لأمر ما بوجود هذا الأمر بينهم معمولا به ولا ينهاهم القرآن عنه، كما قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: "كنا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل"[2]، زاد سفيان في رواية مسلم: "لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن"، وفي رواية أخرى لمسلم: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا"
فلو قدر أن القرآن لم يأمر نساء المسلمين نصا بتغطية وجوههن إلا أنه أقر ذلك ولم ينه عنه، ولما كانت المسلمات تفعل ذلك تدينا لأنه لم يكن من عادتهن قبل ذلك،كان هذا الإقرار إقرارا أنه حق ودين وعبادة.
وهذا الكلام كله يقال على فرض أن تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي عنها لم يرد فيها غير عادة المسلمين، لكن هل هذا الافتراض صحيح؟ بالطبع لا، فقد جاءت أدلة متعددة من الكتاب ومن السنة تدل على أن المرأة تغطي وجهها بحضرة الرجل الأجنبي عنها، فمن ذلك:
1- قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذالك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما" [الأحزاب:59]، وهذا أمر من الله تعالى لرسوله الكريم المبلغ عنه وحيه وشرعه أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، وهذا معناه تغطية وجوههن ورؤسهن وسائر أجسادهن بحضرة الرجل الأجنبي، وقد اتفقت كلمة كثير من المفسرين على أن تغطية وجه المرأة بحضرة الرجل الأجنبي داخل في المراد بإدناء الجلابيب، وهناك العديد ممن تكلم بذلك من العلماء العالمين بتفسير كلام رب العالمين[3]، وكفى بذلك دليلا وحجة واضحة على أن التغطية من الدين ومن العبادة التي أمر النساء بها.
والجلابيب جمع جلباب، والجلباب هو الثوب الذي تشتمل به المرأة فيغطي جميع الجسد، قال ابن حجر رحمه الله تعالى في بيان تفسير الجلباب :"الجِلْباب وهو بكسر الجيم وسكون اللام وبموحدتين بينهما ألف، قيل :هو المقنعة، أو الخمار، أو أعرض منه، وقيل :الثوب الواسع يكون دون الرداء، وقيل :الإزار، وقيل :الملحفة، وقيل :المُلاءة، وقيل :القميص"[4] فكل هذه ألفاظ متقاربة في المعنى يراد بها الثوب الذي يستر البدن كله.
وقوله :"يدنين" أي يقربن "من جلابيبهن" أي شيئا من جلابيبهن، والمعنى يقربن إلى وجوههن شيئا من جلابيبهن فيغطين بها وجوههن.
أقوال بعض أهل العلم في بيان ذلك:
وقد فسر جمع من أهل العلم قديما وحديثا آية الجلابيب بتغطية المرأة لوجهها في مواجهة الرجال الأجانب، فمن هؤلاء:
1- ابن جرير الطبري قال رحمه الله تعالى :"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين :لا تشتبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرض لهن فاسق إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول"، فبين رحمه الله تعالى أن الإدناء المأمور به يعني تغطية الشعور والوجوه يخالفن الإماء بذلك، ليدل على أنهن حرائر، ثم بين الطبري أن أهل التفسير منهم من قال بهذا القول الذي اختاره، ومنهم من لم يقل به، فقال :"ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به فقال بعضهم :هو أن يغطين وجوههن ورءوسهن فلا يبدين منهن إلا عينا واحدة... وقال آخرون :بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن"[5] وقد ذكر ابن جرير من قال بكل قول من هذين القولين من أهل التفسير.
2- أبو بكر الجصاص الحنفي: "في هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن، دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريب فيهن، وفيها دلالة على أن الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها، لأن قوله تعالى ونساء المؤمنين ظاهره أنه أراد الحرائر"[6].
3- القرطبي المالكي: "لما كانت عادة العربيات التبذل وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكُنُف، فيقع الفرق بينهم وبين الإماء فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عذبا أو شابا"[7]، وقال في معنى الجلباب: "والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن"[8]، وكلام القرطبي هنا واضح في أنه يفسر الإدناء بتغطية الوجه وعدم كشفه، ثم حكى القرطبي القولين كما فعل الطبري.
4-ابن كثير الشافعي: "يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات -خاصة أزواجه وبناته لشرفهن -بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية، وسمات الإماء، والجلباب هو الرداء فوق الخمار...قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة، وقال محمد بن سيرين :سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل :يدنين عليهن من جلابيبهن، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى"[9].
5-القاضي البيضاوي الشافعي :"يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن :يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة"[10].
6-جلال الدين المحلي :"يدنين عليهن من جلابيبهن :جمع جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة :أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينا واحدة"[11].
7- وقال أبو السعود :"أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي"[12].
8-وقال النسفي الحنفي :"ومعنى يدنين عليهن من جلابيبهن يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة ادن ثوبك على وجهك، ومن للتبعيض أي ترخى بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة، أو المراد أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، وأن لا تكون المرأة متبذلة في درع وخمار كالأمة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها، وذلك أن النساء في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار، لا فضل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الملاحف وستر الرؤس والوجوه، فلا يطمع فيهن طامع"[13].
9-وقال الزمخشري :"يدنين عليهن من جلابيبهن :يرخينها عليهن ويغطين بها وجههن وأعطافهن، يقال :إذا زل الثوب عن وجه المرأة :أدنى ثوبك"[14].
10-وقال أبو إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري: "أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن ليُعلم أنّهنّ حرائر فلا يُتعرّض لهنَّ ولا يؤذين"[15]، وغيرهم من أهل العلم كثير.
ومما يدل على أن المراد بإدناء الجلابيب يدخل فيه تغطية الوجه أن تلك الآية قد توجه الأمر فيها بالإدناء لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان المعنى شاملا لتغطية الوجه لوجوب ذلك عليهن بالإجماع، وهو ما يعني أن نساء المؤمنين عليهن تغطية وجوههن عند الرجال الأجانب، لتوجه الأمر إليهن بإدناء الجلابيب مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج الأمر بذلك مخرجا واحدا.
2- قول الله عز وجل :"يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم.. إلى قوله تعالى :وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن.."الآية [الأحزاب:53] قال ابن كثير رحمه الله تعالى :"هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال :وافقت ربي في ثلاث قلت :يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى :"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقلت :يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة :عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت كذلك"[16].
ومعلوم أن الحجاب الذي كان يطلبه عمر ليس هو مجرد تغطية الرأس والنحر أو العنق مع كشف الوجه، وإنما كان يريد غطاء البدن كله بما فيه الوجه، بل كان يريد أكثر من ذلك، كان يريد عدم الخروج من المنزل إطلاقا، وقد دل على رغبته تلك حديثه في قصة خروج سودة رضي الله تعالى عنها عندما قال لها عند خروجها قد عرفناك يا سودة-وكان يعرفها قبل الحجاب وكانت جسيمة لا تخفى على من عرفها-فانظري كيف تخرجين.
والاستخدام القرآني للفظ الحجاب إنما جاء في الستر، ويدل لذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى في حق مريم رضي الله تعالى عنها :"فاتخذت من دونهم حجابا" والحجاب الذي اتخذته مريم فيه ثلاثة أقوال :
أحدها :الستر والحاجز.
والثاني :أن الشمس أظلتها فلم يرها أحد من أهلها وذلك مما سترها الله به.
والثالث :أنها اتخذت حجابا من الجدران"[17]، وكلها تدور حول سترها كلية عن نظر الناس، وليس ستر شعرها ونحرها.
والعلماء لم يختلفوا في المعنى المراد من الحجاب في آية الحجاب، لكن هل الأمر بالحجاب قاصر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم هو عام يشمل نساء المؤمنين جميعهن؟.
أسباب ورود الآيات تبين أن الحديث كان عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بالنظر إلى أدلة كثيرة يتبين أن نساء المؤمنين يشتركن في ذلك الحكم مع أمهات المؤمنين.
أولا :لما تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.
وثانيا :لاشتراك الجميع في علة الحكم، وهي قوله تعالى :"ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن"، قال ابن جرير رحمه الله تعالى :"وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب يقول :وإذا سألتم أزواج رسول الله، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج، متاعا فاسألوهن من وراء حجاب، يقول :من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن، يقول تعالى ذكره :سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب، أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل"[18].
وقال القرطبي :"في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض أو مسألة يُستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة :كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعرِض وتَعَيَّن عندها"[19]، وقال أبو بكر الجصاص :"قوله تعالى :وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب، قد تضمن حظر رؤية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وبين به أن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن، لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميل والشهوة، فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب، قوله تعالى :وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، يعني بما بين في هذه الآية :من إيجاب الاستئذان، وترك الإطالة للحديث عنده، والحجاب بينهم وبين نسائه، وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره؛ إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به، إلا ما خصه الله به دون أمته"[20]
_________________
شات طريق الاسلام
اللهم ارحمنا وارفعنا بالقران العظيم الذي ايدت سلطانه وقلت يا اعز من قائل سبحانه فاذا قرانه فاتبع قرأنه ثم ان علينا بيانه احسن كتبك نظاما وافصحها كلاما وابينها حلالا وحراما ظاهر البرهان محكم البيان محروس من الزياده والنقصان فيه وعد ووعيد وتخويف وتهديد لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد