المرحلة المدنية
يمكن تقسيم المرحلة المدنية إلى ثلاث فترات:
1- فترة أثيرت فيها القلاقل والفتن من الداخل، وزحف الأعداء من الخارج لاستئصال المسلمين، وتنتهي هذه الفترة عند صلح الحديبية في سنة ست من الهجرة.
2- فترة الهدنة مع المشركين وتنتهي بفتح مكة سنة ثمان للهجرة، وفيها كانت دعوة الملوك إلى الإسلام.
3- فترة دخول الناس في دين الله أفواجاً، وتمتد هذه الفترة إلى انتهاء حياة الرسول ، سنة إحدى عشرة للهجرة.
أولاً: فترة القلاقل والفتن (1هـ -6هـ)
الوضع في المدينة عند الهجرة:
تمثل الهجرة تحولاً ضخماً لإقامة مجتمع جديد في بلد آمن، ولذلك كانت الهجرة قبل الفتح - فتح مكة- فرضاً على كل مسلم قادر، ليسهم في بناء هذا الوطن الجديد، ومن هنا نرى أهمية التأريخ للإسلام بالهجرة ذلك الحدث العظيم.
أما مجتمع المدينة الجديد فقد كان يتألف من ثلاث فئات:
1- من المسلمين المهاجرين الذين هاجروا مع الرسول ، والأنصار الذين آووا ونصروا.
2- ومن المشركين الذين لم يؤمنوا بعد من قبائل المدينة.
3- ومن اليهود، وكان في يثرب منهم ثلاث قبائل، بنو قينقاع، وبنو النّضير، وبنو قريظة.
وكانت تواجه الرسول عدة قضايا في بداية الهجرة وفي تلك الفترة بالذات منها:
1- تكوين مجتمع إسلامي بالمدينة يمثل الدعوة الإٍسلامية ويتكامل فيه التشريع والتقنين والتربية، وتنهض فيه الحضارة والعمران والاقتصاد والسياسة ومسائل السلم والحرب.
2- دعوة مشركي المدينة إلى الإسلام، وإيجاد صيغة للتعايش معهم حتى يدخلوا في الإسلام ويكفّوا أيديهم عن الكيد للمسلمين.
3- مواجهة دسائس ومؤامرات اليهود وعتّوهم وفسادهم وعداوتهم لرسول الله وللمسلمين.
4- الإعداد والتجهيز للقوى المناوئة للإسلام خارج المدينة وعلى رأسها قريش، فحالة الحرب واقعة يقيناً بين هؤلاء الطغاة من أهل مكة وبين المسلمين في وطنهم الجديد.
بناء مجتمع جديد:
1- بناء المسجد النبوي:
كانت أول خطوة في هذا السبيل هي بناء المسجد النبوي كما تقدم، وبنى الرسول بيوتاً إلى جانبه، هي حجرات أزواجه التي انتقل إليها فيما بعد، وقد كان المسجد جامعة للإسلام، ومنتدى للتشاور وحلّ النزاعات، وقاعدة لإدارة المجتمع وشؤونه المتعددة، كنى لفقراء المهاجرين.
2- المؤاخاة بين المسلمين:
ومن أهم الأعمال في سبيل بناء المجتمع الجديد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، يقول ابن القيم: ثم آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المساواة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عزّ وجلّ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض (الأنفال/ 75) رد التوارث، وبقي عقد الأخوة.
ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه، وقد جعل الرسول هذه الأخوة عقداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.
3- ميثاق التحالف الإسلامي:
أضاف الرسول بهذا الميثاق لبنة مهمة إلى بناء المجتمع الجديد، فقد أزالت هذه الخطوة ما كان من ضغائن الجاهلية، والنزاعات القبلية، وفيما يلي نصوص الميثاق:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي( ) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم:
1- أنهم أمة واحدة من دون الناس.
2- المهاجرون من قريش على ربعتهم (الحال التي هم عليها) يتعاقلون بينهم (يدفعون ديّاتهم بعضهم مع بعض) وهم يفدون عانيهم ( أسيرهم) بالمعروف، والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم (ديّاتهم) الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالعروف والقسط بين المؤمنين.
3- وأن المؤمنين لا يتركون مُفَرّجاً (مُثقلاً بالدين) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
4- وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ( عطية) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين.
5- وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.
6- ولا يُقتل مؤمن في كافر، ولا يُنصر كافر على مسلم.
7- وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.
8- وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
9- وإن سِلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
10- وأن المؤمنين يبيء - يرجع ويحتمل - بعضهم على بعض بما ينالهم في سبيل الله.
11- وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
12- وأنه من اعتبط مؤمناً (قتله بدون سبب) قتلاً عن بينة فإنه قود ( يقتل به) إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
13- وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثاً - من أحدث منكراً غير معتاد - ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل (أي لا يشارك في تصريف الأمور ولا في الشهادة عليها).
14- وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد .
وهكذا أرسى الرسول قواعد المجتمع الجديد في المدينة على أسس راسخة ومبادئ شامخة، من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
4- المعاهدة مع اليهود:
كان لابد - لتأمين سلامة المجتمع الجديد - من تنظيم العلاقة بغير المسلمين في هذا المجتمع، فكانت هذه المعاهدة مع اليهود، وأهم بنودها:
1- إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، وكذلك لغير بني عوف من اليهود.
2- وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4- وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
5- وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه (أي أن يكون التعاون بينهم على البر دون الإثم).
6- وإن النصر للمظلوم.
7- وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
8- وإن يثرب حرام جوفها (داخلها) لأهل هذه الصحيفة.
9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله .
10- وإنه لا تُجَار -من الجوار- قريش ولا من نصرها.
11- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب .. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
وبهذه المعاهدة قامت دولة المدينة الإسلامية الراشدة تحت قيادة الرسول الأعظم .
بداية الجهاد المسلح:
لم تنقطع قريش عن تهديد المسلمين بعد الهجرة، بل استمرت في هذا التهديد والاستفزاز للمسلمين عموماً، وللأنصار على وجه الخصوص ولمشركي المدينة، وكانت رسالة قريش للمدنيين من المشركين حاسمة في هذا، قالوا: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم.
أما رسالتهم للمهاجرين فتقول: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم.
وفي هذه الظروف الخطيرة نزل الإذن بالقتال، قال تعالى:أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الحج/39، وقال تعالى: الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر الحج/41، والإذن بالقتال كان لإزاحة الباطل وإقامة الشعائر.
الغزوات والسرايا قبل بدر:
كان لهذه الغزوات والسرايا أهداف منها:
1- الاستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة.
2- عقد المعاهدات مع القبائل التي تسكن حول هذه الطرق.
3- إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية بقوة المسلمين.
4- إشعار قريش بالخطر على تجارتها ومصالحها.
وهذه السرايا والغزوات هي :
1- سرية سيف البحر في السنة الأولى للهجرة، وكان على رأسها حمزة بن عبد المطلب .
2- سرية رابغ في السنة الأولى للهجرة، وكان على رأسها عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب .
3- سرية الخرّار في السنة الأولى للهجرة، وكان على رأسها سعد بن أبي وقاص .
4- غزوة الأبواء أو ودّان في السنة الثانية للهجرة، وقادها الرسول بنفسه، وهي أول غزوة غزاها ، وكان حامل اللواء فيها حمزة بن عبد المطلب .
5- غزوة بواط في السنة الثانية للهجرة، وقادها الرسول بنفسه.
6- غزوة سفوان في السنة الثانية للهجرة، وقادها الرسول بنفسه، وتسمى هذه الغزوة بدر الأولى.
7- غزوة ذي العشيرة في السنة الثانية للهجرة، وقادها الرسول بنفسه.
8- سرية نخلة في السنة الثانية للهجرة، وكان على رأسها عبد الله بن جحش في اثني عشر من المهاجرين، وقد قتلوا عمرو بن الحضرمي وهو أول قتيل في الإسلام، وأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، وهما أول أسيرين في الإسلام، وعادوا باعير بعد أن عزلوا الخمس وهو أول خمس في الإسلام، وكان ذلك في رجب الشهر الحرام، وأنكر الرسول ما فعلوه، حتى نزل الوحي يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير، وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ( البقرة/217)، فأطلق الرسول الأسيرين، وأدّى دية المقتول إلى أوليائه.
نزول فرضية القتال:
في تلك الفترة بعد سرية عبد الله بن جحش، فرض الله تعالى القتال، ونزلت في ذلك آيات، قال تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (البقرة/190).
وإيجاب القتال والحث عليه، والأمر بالاستعداد له، هو عين ما كانت تقتضيه تلك الفترة، وفي تلك الأيام في السنة الثانية للهجرة أمر الله عزّ وجل بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في إشارة إلى بداية دور جديد.
غزوة بدر الكبرى
سبب الغزوة:
رجوع عير قريش من الشام محملة بثروات طائلة، وإرادة الرسول أن يوجه ضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة لقريش إذا فقدت هذه الثروة.
الجيش الإسلامي في بدر:
استعد رسول الله للخروج ومعه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، وكان معهم فَرَسان وسبعون بعيراً يتعاقبون عليها، ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري.
وقسم الجيش إلى كتيبتين:
1- كتيبة المهاجرين وأعطى لواءها علي بن أبي طالب.
2- كتيبة الأنصار وأعطى لواءها سعد بن معاذ.
وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، أما القيادة العليا فكانت له ، وانطلق الجيش يطلب عير قريش.
جيش المشركين في بدر:
علم أبو سفيان - وكان على عير قريش - بخروج المسلمين إليه فأرسل إلى قريش يستنفرها، فتحفز الناس سراعاً ولم يتخلف من أشرافهم سوى أبي لهب، وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل، وكان معهم مائة فرس وستمائة درع، وجمال كثيرة، وقائدهم العام أبو جهل بن هشام.
وخرج هذا الجيش بعدّته وعتاده، واتجه إلى الشمال، وعندما علم المشركون بنجاة قوافلهم بعد أن توجه بها أبو سفيان ناحية الساحل، همّ الجيش بالرجوع، ولكن أبا جهل أبى إلا أن يَرِد بدراً، فعاد ثلاثمائة من بني زهرة وانطلق الباقون.
الجيشان في المواجهة:
تحرك رسول الله بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر، وأخذ برأي الحباب بن المنذر في النزول على أدنى ماء من جيش مكة حيث يشرب المسلمون ولا يشرب المشركون، وبنى المسلمون عريشاً لرسول الله كمقر للقيادة، بناء على مشورة سعد بن معاذ الذي قاد فرقة من شباب الأنصار يحرسون النبي في عريشه.
وكان قد أنزل الله مطراً فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طهوراً أذهب عنهم رجس الشيطان، ووطّأ به الأرض، وصلّب به الرمل وثبّت به الأقدام ومهّد به المنزل وربط به على قلوبهم.
وغشّاهم النعاس فأخذوا قسطهم من الراحة، قال الله عز وجل: إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام الأنفال/11، وكان هذا في رمضان من السنة الثانية للهجرة.
أما جيش المشركين فكان بالعدوة القصوى وكانوا ينزلون إلى وادي بدر دون أن يصيبوا الماء، وقامت معارضة من داخلهم تنادي بالعودة وترك المسلمين والقتال ولكنها ذهبت دون جدوى.
واصطف الجيشان وعدّل الرسول صفوف جيشه، وأصدر أوامره إلى أصحابه أن لا يبدءوا القتال حتى يتلقون الأمر، ودخل إلى العريش فاستقبل القبلة ودعا: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبدي الأرض". وأنزل الله عز وجل: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (الأنفال/ 9)، وخرج رسول الله من العريش وهو يردد الآية الكريمة: سيهزم الجمع ويولون الدبر (القمر/45).
وعلى صعيد المشركين وقف أبو جهل يستفتح: "اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم"، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم، وإن تعودوا نعد، ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ( الأنفال/ 19).
بداية القتال في بدر وانتصار المسلمين:
بدأ القتال بمبارزات فردية حيث تقدم عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فانتدب لهم شباب من الأنصار فرفضوا مبارزتهم وطلبوا مبارزة بني قومهم، فأمر الرسول حمزة وعلياً وعبيدة بن الحارث بمبارزتهم، وتمكن حمزة من قتل عتبة ثم قتل عليّ شيبة، وأما عبيدة فقد تصدى للوليد وجرح كل منهما الآخر، فعاونه حمزة وعلي فقتلوا الوليد واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين.
أثرت نتيجة المبارزة في المشركين وبدءوا الهجوم، فرماهم المسلمون بالنبل، ورمى رسول الله الحصى في وجوه المشركين، والتقى الجيشان في ملحمة قتل فيها سبعون من المشركين، على رأسهم أبو جهل فرعون هذه الأمة، وأمية بن خلف رأس الكفر، وأُسر سبعون وانتصر المسلمون بفضل الله عز وجل، قال تعالى: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (آل عمران/ 123).
ومما روي في كتب السيرة أن النبي خفق خفقة في العريش ثم انتبه، فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل معتجر بعمامة (أي لفّها على رأسه) آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النّقع (الماء المتجمع في الغدير) أتاك نصر الله وعِدَتُه (وعده). وقد ثبت في القرآن والسنة مشاركة الملائكة في القتال يوم بدر.
وفرّ المشركون لا يلوون على شيء تاركين غنائم كثيرة في ميدان المعركة، وأمر الرسول بسحب قتلى المشركين إلى آبار ببدر فأُلقوا فيها، وأقام ببدر ثلاثة أيام ودفن شهداء المسلمين فيها وهم أربعة عشر شهيداً.
الأسرى والغنائم
استشار الرسول أبا بكر وعمر فيما يصنع بالأسرى، فأشار أبو بكر بأخذ الفدية منهم، وعلل ذلك بقوله: " فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام"، وأشار عمر بن الخطاب بقتلهم "فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها".
ومال النبي إلى رأي أبي بكر بقبول الفدية، وقبلها فعلاً، فنزلت الآية موافقة لرأي عمر، قال تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (الأنفال/ 67).
أما الغنائم فلم يكن فيها حكم للشرع فنزل قول الله عز وجل: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول (الأنفال/ 1)، وقوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (الأنفال/ 41)، فأخرج الرسول صلى لله عليه وسلم الخمس من الغنيمة ثم قسمها بين المقاتلين.
غزوة بدر في التاريخ:
لقد كانت موقعة بدر- رغم صغر حجمها - فاصلة في تاريخ الإسلام، لذلك سماها الله عز وجل في كتابه "يوم الفرقان"، لأنه فرق بها بين الحق والباطل، وقد استحق المقاتلون ببدر أن ينالوا التقدير الكبير الذي صار يلازم كلمة "البدري"، وفي البخاري: "جاء جبريل إلى النبي فقال: "ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال: أفضل المسلمين، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة"، وخلاصة القول أن بدراً كانت بداية لمرحلة جديدة من السيادة والاستعلاء والعزة للإسلام والمسلمين.
في أعقاب بدر:
حدثت في أعقاب بدر عدة غزوات صغيرة، ولكن لم يحدث فيها قتال، إما لفرار المشركين أو عدم تلاقي الفريقين أو غير ذلك، ومنها:
1- غزوة قرقرة الكُذر .
2- غزوة السويق.
3- غزوة ذي أمر.
4- غزوة بحران.
5- غزوة القرَدَة.
غزوة أحـــد
أين ومتى كانت ولماذا؟
وقعت غزوة أحد عند جبل أحد في شمال المدينة، وكانت في شوال في السنة الثالثة للهجرة، ومن أسبابها أن قريشاً أرادت الثأر لقتلاها في بدر، كما أرادت إنقاذ طرق التجارة إلى الشام من سيطرة المسلمين، واستعادة مكانتها عند العرب بعد أن زعزعتها موقعة بدر
جيش المشركين:
بلغ عدد جيش المشركين ثلاثة آلاف رجل، ومعهم مائتا فرس جعلوا على ميمنتها خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وكان منهم سبعمائة دارع، وشاركت في هذا الجيش قريش ومن أطاعها من كنانة وتهامة.
الرسول يستشير أصحابه:
شاور الرسول أصحابه في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة جيش قريش، وكان الرسول يرى عدم الخروج، ولكن أصحابه رأوا الخروج فأمضى لهم رأيهم تأصيلاً لمبدأ الشورى، وعملاً بقول الله عز وجل: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله آل عمران/ 159.
ولما عدلوا عن رأيهم إلى رأيه في البقاء في المدينة، رفض وعزم على الخروج، ليعلمهم عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ.
جيش المسلمين :
ارتفعت الراية تتقدم ثلاثة ألوية، لواء المهاجرين يحمله مصعب بن عمير، فلما قتل حمله علي بن أبي طالب، ولواء الأوس يحمله أسيد بن حضير، ولواء الخزرج يحمله الحباب بن المنذر، واجتمع تحت الألوية ألف من المسلمين والمتظاهرين بالإسلام، ومعهم فرسان فقط ومائة دارع ولبس الرسول درعين ليعلمنا الأخذ بالأسباب .
انسحاب المنافقين من جيش المسلمين:
خرج الجيش الإسلامي إلى أحد مخترقاً الجانب الغربي من الحرة الشرقية، حيث انسحب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة من المنافقين، وبذلك تميز المؤمنون من المنافقين، قال الله تعالى: وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطي آل عمران/179.
المواجهة بين الجيشين:
نظم الرسول الجيش ورد صغار السن، وهم أربعة عشر صبياً منهم عبد الله بن عمر، وجعل صفوف الجيش تواجه المدينة وظهورها إلى أحد، وجعل خمسين من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير فوق جبل "عينين" المقابل لأحد، لحماية المسلمين من الخلف، وقال لهم: و رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا مكانكم) رواه البخاري.
وتقدم جيش قريش وهو يواجه أحد وظهره إلى المدينة، واشتد القتال بين الجيشين وتراجع المشركون أمام بطولة المسلمين الذين شقوا هام المشركين، واستشهد الأبطال: أبو دجانة، وحمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير ، ورأى الرماة انتصار المسلمين فتركوا مواقعهم يطلبون الغنيمة ظناً منهم أن المعركة حسمت لصالح المسلمين .
وهنا بدأ التحول من النصر إلى الهزيمة، فقد التف خالد بن الوليد على رأس خيالة المشركين بجيش المسلمين من الخلف وطوق المشركون المسلمين، وأخذ المسلمون يتساقطون شهداء، وشاع بينهم أن الرسول قد قتل فتفرق المسلمون، وبقى حوله سبعة من الأنصار رشيان، فاستشهد السبعة وبقي طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص يدافعان عن النبي . وقد أصيب الرسول في هذه المعركة فكسرت رباعيته، وشج في وجهه حتى سال الدم منه .
نتائج المعركة:
أصيب رسول الله - كما تقدم - واستشهد من المسلمين سبعون ولم يؤسر أحد، وقتل من قريش اثنان وعشرون رجلاً، وأسر منهم أبو عزة الشاعر، فقتل صبراً لاشتراكه قبل ذلك في قتال المسلمين ببدر
وصبر المسلمون على هذه المصيبة، وأنزل الله عزل وجل: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون آل عمران/169.
غزوة حمراء الأسد
أمر الرسول الجيش الذي شهد أحداً أن يخرج لمطاردة جيش قريش إلى حمراء الأسد رغم إصابة الكثيرين منهم بجراح، وسارع سبعون من الصحابة بالانضمام إليهم، فصار العدد ستمائة وثلاثين، وعلى رأسهم الرسول وقد مدحهم القرآن فقال: الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم آل عمران/ 172.
وكان أبو سفيان ينوي التوجه بالمشركين إلى المدينة لاستئصال المسلمين فلما علم بخروجهم إلى حمراء الأسد انصرفوا عائدين إلى مكة، وعلموا بقدرة المسلمين على الدفاع ورد العدوان رغم ما أصابهم.
غزوة بدر الموعد
كانت سنة أربع للهجرة، حيث خرج الرسول بألف وخمسمائة من أصحابه ومعه عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب إلى بدر حسب الموعد المحدد بعد أحد، وانتظر المسلمون ثمانية أيام ببدر، ولكن أحداً من المشركين لم يأت
وكان أبو سفيان قد خرج بألفين من المشركين ومعهم خمسون فرساً فلما وصلوا مر الظهران عادوا بحجة إن العام جدب، وبذلك تحققت للمسلمين هيبتهم بين قبائل الجزيرة، وواصل المسلمون إرسال سراياهم إلى مختلف الأنحاء حتى كانت غزوة بني المصطلق.
غزوة بني المصطلق (المريسيع)
بنو المصطلق بطن من قبيلة خزاعة، يسكنون بين المدينة ومكة، والمُريسيع بضم الميم: ماء لبني خزاعة، وقد خرج إليهم الرسول سنة خمس للهجرة بعدما زادت عداوتهم للمسلمين، في نحو سبعمائة مقاتل فأغار عليهم وهم غارّون (أي غافلون) فقتل من قتل منهم وسبى النساء والذرية، وكانت جويرية بنت الحارث من هذا السبي فتزوجها الرسول ، وأطلق المسلمون السبي إكراماً لها.
وفي رجوع رسول الله من هذه الغزوة، قال عبد الله بن أبي بن سلول: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، وتبرأ عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه، وقال لرسول الله : "يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل"، نع أباه من دخول المدينة حتى يأذن له النبي الرسول ، وقال: يا رسول الله مرني أن أقتله، فأخبره الرسول أنه لن يسيء إلى أبيه.
وفي رجوعه أيضاً كان حديث الإفك، الذي أطلقه المنافقون على السيدة عائشة زوج النبي الرسول لما تخلفت عن الجيش، ولكن الله تعالى أنزل براءتها في نحو عشرين آية من آيات سورة النور.
غزوة الخندق ( الأحزاب)
كانت في السنة الخامسة للهجرة بعد أن أجلى الرسول يهود بني قينقاع وبني النضير عن المدينة، فتحالف هؤلاء مع قرش وباقي الأحزاب ضد المسلمين، وبقيت قريظة في المدينة تظهر الولاء للمسلمين وتبطن العداوة والبغضاء لهم
واجتمعت القبائل في مر الظهران وانطلقوا إلى المدينة، وما أن علم المسلمون حتى اجتمعوا للشورى، فأشار سلمان الفارسي على رسول الله بحفر الخندق في شمال المدينة، ليشكل حاجزاً يمنع الالتحام بين الغزاة وبين المسلمين، ويمنع اقتحام المدينة، وير للمسلمين موقعاً دفاعياً جيداً يمكنهم من رشق الغزاة بالسهام من وراء الخندق، الذي يبلغ طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة إلى تسعة أذرع، وتم حفره في ستة أيام رغم الجوع والبرد.
وفي حفر الخندق حدثت آيات ودروس كثيرة تحكي عن منظومة الإيمان التي كان يعيشها المسلمون مع رسولهم ، لذا لم يعبئوا وهم ثلاثة آلاف مقاتل في هذه الغزوة أن يكون عدد المشركين عشرة آلاف مقاتل، وأن تكون قريظة قد نكثت عهدها معهم
وقد صور القرآن حال المسلمين فقال: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا - هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً الأحزاب/ 10-11
الحصار والرحيل:
فوجئت قريش بالخندق، وكلما هموا باقتحامه أمطرهم المسلمون بالسهام، واشتد الحصار وطال أربعاً وعشرين ليلة لم يكن فيها حرب إلا الرمي بالنبال، ولكن هجمات المشركين لم تنقطع، واستشهد من المسلمين ثمانية منهم سعد بن معاذ
وكان طول الحصار سبباً في إضعاف معنويات المشركين، وأرسل الله ريح الصبا فاقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم ودفنت رحالهم، فنادى فيهم أبو سفيان بالرحيل، وهكذا انفض الأحزاب عن المدينة فتنفس المسلمون الصعداء، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً الأحزاب/ 25.
غزوة بني قريظة
وهنا انطلق الرسول إلى بني قريظة، فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، ورضوا بأن يحكم فيهم سعد بن معاذ (وهو على فراش الموت قبل أن يستشهد)، فحكم بأن تُقتل الرجال وتُقسّم الأموال وتُسبى الذراري والنساء، فقال له رسول الله : (لقد حكمت فيهم بحكم الله).
وإلى هذا الحد تنتهي فترة الفتن والقلاقل، ليدخل الرسول والمسلمون فترة جديدة تبدأ بصلح الحديبية.
فترة الهدنة مع المشركين (6هـ - 8هـ)
غزوة الحديبية
خرج الرسول إلى الحديبية، في يوم الاثنين مستهل ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة قاصداً العمرة، ونظراً لتوقع الشر من قريش فقد أخذ المسلمون سلاحهم معهم، وبلغ عدد المسلمين في الحديبية ألفاً وأربعمائة رجل. وقد صلى المسلمون بذي الحليفة ورموا بالعمرة وساقوا الهدي (سبعين بدنة).
وعندما سمعت قريش بمسيرتهم جمعت الجموع لصدهم عن دخول مكة، وخرج خالد بن الوليد على رأس خيالة قريش لملاقاة المسلمين، ولكن الرسول غير طريق جيشه تجنباً للقتال، ثم عدل عن دخول مكة فنزل على بئر قليلة الماء، فاشتكى المسلمون العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها، فما زال يجيش بالماء حتى صدروا عنه، وهذه معجزة تكثير الماء في تلك الغزوة.
بيعة الرضوان:
أرسل الرسول عثمان بن عفان رسولاً إلى قريش - بعد عدة مراسلات - فأبلغهم رسالة النبي وأنهم يريدون العمرة، وأخرت قريش عثمان فحسب المسلمون أنها قتلته، فدعا رسول الله أصحابه للبيعة تحت الشجرة، فبايعوه جميعاً - إلا أحد المنافقين - وكانت البيعة على الموت.
وقد أثنى رسول الله على المبايعين فقال: (أنتم خير أهل الأرض) رواه البخاري، ونزل القرآن برضوان الله على أهل البيعة، قال تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكنية عليهم وأثابهم فتحاً قريباً الفتح/ 18.