بسم الله الرحمن الرحيم
لا يحق للمنتمين لهذا الدين، وبخاصة من آتاهم الله علماً وقدرة على التبليغ والبيان، أن يعتزلوا الناس، ويختلوا بأنفسهم أو يعتكفوا في دور عبادتهم، ويبتعدوا عن إصلاح المجتمعات، أو ينزووا خلف مكاتبهم ، ويتقوقعوا حول كتبهم، ويتخلوا عن دورهم في تعليم دين الله، أوأن يزهدوا في الاختلاط بالناس ودعوتهم ، والصبر على ما يلاقون في سبيل ذلك؛ لأن الدعوة ليست محصورة بزمان، أو محدودة بمكان، بل هي وظيفة الأنبياء وأتباعهم... كابدوا من أجلها الصعاب، وأجلبوا في سبيلها الركاب ، وخاضوا لتحقيقها العُباب..
دعاة إلى الله لا إلى أنفسهم ، على علم وبصيرة لا على جهل ولا إلى بدعة، بل على هدي الكتاب والسنة.
شعارهم: )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني( قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وحق الله وعلى من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله)
وقد جاء في النشرات التعريفية للمكاتب التعاونية للدعوة والإرشاد أنّ من المواقع التي يمكن للمكتب أن يمارس أعماله ومناشطه الدعوية من خلالها (المجمعات السكنية ، ووسائل النقل بأنواعها ، والجمعيات والأندية والأسواق ، ومواقع تجمعات الناس ، والشوارع والطرق داخل المدن وخارجها ، وقاعات الاحتفالات والمعارض والمؤتمرات وصالات الانتظار، وأماكن تقديم الخدمة العامة ، والمصليات المتنقلة ، والأندية الأدبية والرياضية)
فجميع تلك المواطن تعتبر ميادين للدعوة ، على دعاة الحق أن يرتادوها هداة مصلحين.
قال إمام الدعاة r : ((المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ))[1]
قال الصنعاني: (فيه أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة)[2]
بل ها هو عليه أفضل الصلاة والسلام يحرص -بنفسه- على نيل هذه الأفضلية، فيطوف على قبائل العرب ويأتي إليهم في منازلهم وأسواقهم وأماكن تواجدهم، ليدعوهم إلى ما جاء به من الهدى والنور، ويعرض عليهم نفسه في بداية بعثته لنصرته وحمايته حتى يبلغ رسالة ربه، غير مبال بما يلقاه منهم من أذى واستهزاء، صابراً على ما يواجهه من سعي قريش الحثيث لتشويه سمعته عندهم .
وبعد هجرته r كان يتولى نصح الناس ووعظهم حين يلقى بعضهم في الطريق، وإذا أردف أحدهم على الدابة، وفي كل مكان يجتمع فيه معهم في الحضر أو السفر، وفي كل الأحوال.
جاء في حديث البراء بن عازب t قال : (خرجنا مع النبي r في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يُلْحَد، فجلس رسول الله r وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ))استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثا ... الحديث )[3]
ولم تمنعه مكانته الكريمة، ومنزلته الرفيعة في مجتمعه وبين أصحابه، من تتبع مجالس الناس وأماكن تجمعهم، والإتيان إليهم فيها لدعوتهم ووعظهم، فقد جاء في الصحيحين أن رسول الله r ركب على حِمَار، يعود سعد بن عبادة، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل، وقرأ عليهم القرآن، وفي لفظ (فوقف صلى الله عليه وسلم على المجلس، ووعظ وذكَّر ) فقال عبد الله بن أبَيّ: أيها المَرْء، إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك. [4]
فشتان بين من كان محباً للدعوة، مرحّباً بأهلها في كل مكان حلّوا، وفي أي أرض نزلوا، وبين من يقتدي بابن سلول -وهو لا يشعر- فينادي بحصر الدعوة في أماكن مخصوصة، كالمساجد وقاعات الدراسة، بل قد يمنع منها حتى في المدارس.
فرسول الله r لم يحصر الدعوة في المسجد، ومن تتبع السنة المطهرة وجد أنّ أقل الأحاديث النبوية هي التي ألقاها في المسجد، بينما أغلب ما صحّ عنه من توجيهات وقعت منه صلى الله عليه وسلم خارجه.
وليس هذا من الاستهانة بشأن المسجد وأهمية ربط الناس به، أوالتقليل فيما يقام أو يقال فيه من دروس وندوات، فهو أحب البقاع إلى الله، وإليه يأرز العلم ويأوي طلبته، ومنه تنطلق الدعوة وفيه تتربى الأجيال، إنما الخطأ اعتبار المساجد هي المكان الأوحد للنصح والوعظ، فلو حصرنا الدعوة فيها ، فمن يهتم بأولئك المعرضين الذين صدهم الشيطان عن سواء السبيل ؟! ومن يأتي بهم إلى بيوت الله آمنين مطمئنين لينهلوا من بركتها وآدابها..؟!!!
وأين أولئك - الداعين إلى حصر الدعوة بالمساجد- من النبي الكريم من نسل الكرماء يوسف عليه السلام الذي حمل دعوته في غياهب السجون، وقال لمن اجتمع به من المساجين ) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(
وأورد الذهبي رحمه الله في سيرة وكيع بن الجراح رحمه الله (ت197)، وهو من علماء الحديث وأئمة السنة في زمانه: أنه كان (يصلي الظهر، ويقصد الطريق إلى المَشْرَعَة ]موضع انحدار الماء[ التي يصعد منها أصحاب الروايا ]الدواب التي يستقى عليها الماء[ فيُرِيحون دوابّهم، فيعلّمهم من القرآن ما يؤدون به الفرض إلى حدود العصر)[5]
وهذا لا يعني أن جميع العلماء والدعاة يجب أن يتوافدوا على تلك المواطن كلها في كل وقت، ويشغلوها بالعمل الدعوي في كل حين، بل يجب تحري الحكمة في ذلك بأن يختار الداعية الموطن المناسب لحاله ووضعه، ويختار الوقت الذي يأتي إليه فيه، ومدة مكثه هناك، والموضوع المتوافق مع ذلك المكان، والأسلوب المناسب لنوعية الناس الذين يرتادونه.
فقاعات الاحتفالات لا تشبه وسائل النقل، ومناسبات الأفراح غير أوقات العزاء، وما يقال في المقاهي يختلف عما يقال عند المقابر، والأسلوب القصصي يختلف عن العلمي، وكذلك الحواري غير الخطابي، ووضع العالم الكبير الوقور يختلف عن حال طالب العلم الشاب، وما يطرح في مجالس الرجال قد لا يصلح بين النساء...
فلا بد من مراعاة ذلك كله؛ لتلافي الأخطاء التي قد تحدث في بعض المواطن من بعض الدعاة، مع التأكيد أنَّ الدعوة إلى الله عبادة واجبة على كل مسلم ومسلمة، بحسب قدرات كل امرئٍ وإمكانياته.
ختاماً: إنَّ أدراك أهمية الدعوة في كل مكان، وفقه أساليبها، ولمن تصلح؟ ومع منْ ؟ = كانت سبباً في نجاح كثير من الدعاة الموفقين، الذين لم يكتفوا بمخالطة الناس فحسب، بل زاحموا دعاة الضلال في أماكن اللهو والغفلة، وشاركوهم في وسائلهم المتعددة التي ملئوها بالفسق والانحلال، فاقتحموا تلك الأماكن بالكلمة الطيبة والنصيحة الهادئة، والموعظة الحسنة، وانتشلوا الناس من مستنقعات الرذيلة، ومواطن الفساد، وقادوهم إلى أماكن العبادة وطريق السعادة.
فكانوا بحق كما قال عنهم الإمام أحمد (... يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم!.. )[6]
جعلنا الله هداة مهتدين.
حميدان بن عجيل الجهني.
ذو القعدة 1429
------------------------------
_________________
شات طريق الاسلام
اللهم ارحمنا وارفعنا بالقران العظيم الذي ايدت سلطانه وقلت يا اعز من قائل سبحانه فاذا قرانه فاتبع قرأنه ثم ان علينا بيانه احسن كتبك نظاما وافصحها كلاما وابينها حلالا وحراما ظاهر البرهان محكم البيان محروس من الزياده والنقصان فيه وعد ووعيد وتخويف وتهديد لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد