الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ودبر عباده على ما تقتضيه حكمته وكان الله لطيفا خبيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وكان على كل شيء قديرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (الأحزاب:46)
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد
فيا أيها الناس لقد سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)رواه مسلم
إن الإيمان بالقدر أن تؤمن بقضاء الله وقدره فإن فآمنوا أيها المسلمون آمنوا بأن الله بكل شيء عليم علم ما كان في الماضي وما يكون في المستقبل علم ذلك جملة وتفصيلا (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران:5)
علم الله عز وجل ما في نفس الإنسان ما يكنه ضميره (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)(قّ: من الآية16)
فآمنوا أيها المؤمنون بذلك آمنوا إيمانا يوجب لكم يوجب لكم الحياء من الله عز وجل أن يراكم حيث نهاكم أو يفقدكم حيث أمركم فآمنوا بذلك آمنوا بهذا حتى يثمر لكم هذه الثمرة الجليلة ثم آمنوا بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء كتب ذلك كح قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فإن أول ما خلق الله القلم قال له: أكتب قال: ربي وماذا أكتب قال: أكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة
وشاهدوا هذا في كتاب الله عز وجل (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70)
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)
فهذان أمران يتعلقان بالقضاء والقدر
الأمر الأول علم الله المحيط بكل شيء
والثاني كتابته في اللوح المحفوظ ما سيكون إلى يوم القيامة
أما الأمر الثالث فهو الإيمان بمشيئة الله عز وجل بعموم ملكه فإنه ما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا وهو ملك لله عز وجل كما قال الله تعالى (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:120)
وما من شيء في ملكه إلا وهو بمشيئته وإرادته لا يكون في ملكه ما لا يريد فبيده الملك وبيده مقاليد السماوات والأرض لا يحدث شيء من رخاء وشدة وخوف وأمن وصحة ومرض وقلة وكثرة وفقر وغنى وطاعة ومعصية إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى
أما الأمر الرابع فهو الإيمان بعموم خلق الله فالله عز وجل (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر: من الآية62)
خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب خلقكم الله وخلق ما تعملون فالله عز وجل خالق ذلك كله ومدبره وللإنسان؛ وللإنسان مع ذلك عزيمة وإرادة وله قدرة وعمل والذي أودع فيه تلك العزيمة وخلق فيه تلك القدرة هو الله عز وجل لو شاء الله لسلبه الفكر فضاعت إرادته ولو شاء الله لسلبه القدرة فما استطاع العمل أيها المسلمون إن الإيمان بالقدر كما سمعتم أحد أركان الإيمان الستة لا يتم الإيمان إلا به فمن أنكر قدر الله فإنه ليس بمؤمن ولكن مع ذلك ليس القدر حجة للإنسان على فعل معاصي الله أو على ترك ما أوجب الله وذلك لأن الله أعطاك عقلا تتمكن به من الإرادة وأعطاك قدرة تتمكن بها من العمل ولذلك إذا سلب إذا سلب عقل الإنسان لم يعاقب على معصية ولا ترك واجب وإذا سلبت قدرته على الواجب لم يؤاخذ بتركه إن الاحتجاج بالقدر على المعاصي كما يفعله المقدمون على المعصية أو على ترك الواجبات كما يفعله المتهاونون بالواجبات إن الاحتجاج بالقدر على ذلك حجة داحضة باطلة أبطلها الله في كتابه ويبطلها كذلك العقل والواقع
أما في القرآن فقد قال الله عز وجل (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (النساء: من الآية165)
ولو كان القدر حجة لم ترتفع بإرسال الرسل لأن القدر ثابت مع إرسال الرسل وقال الله عز وجل (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ) (الأنعام: من الآية148)
قال الله تعالى راداً لقولهم (كذَلِكَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)
(الأنعام: من الآية148)
فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة صحيحة وعذرا مستقيما ما أذاق الله المحتجين به على شركهم بأسه لأن الله لا يظلم أحدا إن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الواجبات حجة داحضة يبطلها العقل وذلك لأن المحتج بالقدر ليس عالما بما قدر له حتى يبني عليه عمله فكيف يحتج بشيء لا يعلم ما هو لأنه لا يحتج الإنسان بشيء إلا فيما له تأثير في الفعل أو الترك أما ما لا يعلم عنه فكيف يكون حجة له وإنني أضرب لكم مثلا لو أن أحدا اعتدى على شخص فأخذ ماله أو قتله وقال هذا شيء بقضاء الله وقدره فهل تقبل هذه الحجة إنني أعلم علم اليقين أنه لا أحد يقبل هذه الحجة
ولهذا يذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رفع إليه سارق فأمر بقطع يده فقال له السارق: (مهلا يا أمير المؤمنين والله ما سرقت إلا بقضاء الله وقدره فقال عمر رضي الله عنه: ونحن لا نقطع يدك إلا بقضاء الله وقدره)
أيها المسلمون إنه لا يمكن للإنسان أن يجعل القدر حجة له على ترك ما أوجب الله عليه أو على فعل ما حرم الله عليه لأن ذلك أمر يبطله الواقع فإننا نعلم جميعا إن الإنسان لا يتوظف بوظيفة إلا بقضاء الله وقدره ومع ذلك نجد الناس يسارعون إلى الوظيفة يدخلوا فيها حتى يصلوا إليها ولا شك أن وصول الإنسان إلى الوظيفة حاصل بقضاء الله وقدره ومع ذلك فقد سعى للوصول فقد سعى للوصول إلى الوظيفة بما يستطيع من الأسباب ولم يترك العمل للوصول إليها فإذا كان يسارع إلى أمور دنياه فلماذا لا يسارع إلى أمور أخراه لماذا لا يسارع إلى الأعمال الصالحة ليصل إلى ثواب الله وإلى جنته وإننا لنرى الشخص يحجب عن نوع من الطعام يضره أكله ونفسه تشتهيه فيترك هذا الطعام خوفا من مضرته ولا يمكن أن يقدم عليه ويحتج بالقضاء والقدر فلماذا يقدم على المعصية وقد حجبه الشارع عنها وهي تضره ثم يحتج بالقضاء والقدر سبحان الله وقاية البطن لا يحتج عليها بالقضاء والقدر ووقاية النفس والقلب يحتج عليها بالقضاء والقدر هل هذا إلا تناقض أيها المسلمون إن الإنسان العاقل كلما تأمل الواقع وقاس الأمور بعقله ونظر في كتاب الله وسنة رسوله علم علما يقينيا أنه لا حجة للإنسان بقضاء الله وقدره فيما يفعله باختياره وأن الاحتجاج بذلك على ترك الواجب أو على فعل المحرم حجة داحضة باطلة لا يحتج بها إلا البطالون المكابرون أما الأمور التي ليست باختيار الإنسان كالموت والمرض وسقوط شيء على الإنسان حتى يهلكه أو يضره فهذا بلا شك قدر محض لا خيار للعبد فيه ولذلك لا يؤاخذ الله المجنون على ما ترك من الواجبات أو فعل من المحرمات ولكن يمنع هذا المجنون من الاعتداء على غيره كما تمنع البهيمة ولا يؤاخذ الله العبد على ما فعله من محرم جاهلا به أو ناسيا لأنه ليس مختارا لفعله لو ذكر تحريمه أو علم به أيها السلمون لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأنه ما من إنسان إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو من النار قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ونتكل على الكتاب قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء
ثم تلا قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّر
_________________
شات طريق الاسلام
اللهم ارحمنا وارفعنا بالقران العظيم الذي ايدت سلطانه وقلت يا اعز من قائل سبحانه فاذا قرانه فاتبع قرأنه ثم ان علينا بيانه احسن كتبك نظاما وافصحها كلاما وابينها حلالا وحراما ظاهر البرهان محكم البيان محروس من الزياده والنقصان فيه وعد ووعيد وتخويف وتهديد لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد